الرئيسية / مقالات / جدلية العلاقة بين التوجه الجذري والإصلاحي في العمل السياسي: مسار للصراع والتكامل

جدلية العلاقة بين التوجه الجذري والإصلاحي في العمل السياسي: مسار للصراع والتكامل

فيينا / الثلاثاء 31 . 12 . 2024

وكالة السيمر الاخبارية

عبدالرحيم الجرودي / المغرب

تعد العلاقة بين التوجه الجذري في التغيير والتوجه الإصلاحي من أبرز الجدليات التي تشغل الساحة السياسية، حيث تتجلى هذه العلاقة في صراع مستمر بين من يرى ضرورة إحداث تغيير جذري وشامل في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، ومن يرى أن التغيير التدريجي والإصلاحي هو الخيار الأكثر واقعية لتحقيق أهداف سياسية متكاملة ومستمرة.
فالتوجه الجذري يتميز برغبته في إحداث قطيعة مع الواقع الراهن. فهو يرى أن الأنظمة القائمة تحمل في جوهرها خللًا يستعصي على الإصلاح، ويطالب بتغيير شامل قد يتضمن إعادة الهيكلة وصياغة القوانين وإسقاط الحكومات، أو حتى قلب النظام بأكمله. أما التوجه الإصلاحي، فيسعى لتحقيق التغيير من داخل المؤسسات القائمة، عبر تحسين القوانين والسياسات تدريجيًا لتجنب الفوضى وضمان استمرارية النظام.
هذه الجدلية ليست مجرد خلاف فكري، بل تمثل انعكاسًا لطبيعة الصراع والممارسات السياسية للحركات التي تتبنى أحد الخيارين أو تحاول المزج بينهما، فقد شهد التاريخ أمثلة عديدة لحركات جذرية قررت الانخراط في العملية السياسية، مما أدى إلى تغييرات في استراتيجياتها وتوجهاتها: فمثلا حزب الله في لبنان الذي تأسس في ثمانينيات القرن الماضي كحركة مقاومة مسلحة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، متبنيًا خطابًا جذريًا يهدف إلى تحرير الأرض وبناء نظام قائم على الإسلام السياسي. ومع ذلك، منذ التسعينيات، بدأ الحزب بالانخراط في العملية السياسية اللبنانية عبر المشاركة في الانتخابات النيابية والوزارية. هذه المشاركة أظهرت تحولًا براغماتيًا مزج بين استمراره كقوة مقاومة مسلحة وتبنيه دورًا إصلاحيًا في المؤسسات اللبنانية. لكن هذا التحول أثار تساؤلات حول مدى قدرة الحزب على التوفيق بين هويته الجذرية وواقعية العمل السياسي ضمن نظام متعدد الطوائف والأحزاب. وعلى الضفة الأخرى حزب سيريزا في اليونان، تحالف يساري جذري يدعو إلى كسر هيمنة السياسات النيوليبرالية، ولكنه عندما تولى الحكم في 2015، اضطر إلى تقديم تنازلات كبرى تحت ضغط المؤسسات الدولية. هذه التفاهمات أدت إلى خيبة أمل داخل صفوف الحزب وبين أنصاره، مما أثر على مشروعه السياسي. أما في أمريكا اللاتينية وفي كولومبيا مثلا، تحولت حركة “فارك” من تنظيم مسلح إلى حزب سياسي عقب اتفاق السلام مع الحكومة في 2016. هذا التحول أثار تساؤلات حول مدى قدرته على الحفاظ على أهدافه الثورية ضمن إطار النظام الديمقراطي التقليدي.
دور القيادات في الحفاظ على المسار المبدئي
تلعب القيادات دورًا حاسمًا في توجيه مسار الحركات الجذرية وضمان التوازن بين التمسك بالمبادئ الأساسية والانخراط في العمل السياسي. إذ أن القيادة القادرة على استشراف المستقبل وتحديد الأولويات هي العامل الأساسي الذي يضمن الحفاظ على الهوية الفكرية والتنظيمية. في المقابل، ضعف القيادة أو انخراطها في المصالح الشخصية قد يؤدي إلى انحراف الحركة عن مسارها فعلى سبيل المثال لا الحصر، تمكنت بعض الحركات من تجنب السقوط في مستنقع المصالح الضيقة بفضل قيادات وضعت المصلحة العامة فوق اعتبارات الذات. على الجانب الآخر، عندما غلبت المصالح الشخصية، انهارت مشاريع عديدة، وتحولت منظمات كانت تطمح للتغيير الجذري إلى مجرد أدوات لخدمة مصالح محدودة. لذا، فإن نجاح أي حركة يعتمد على نزاهة قياداتها ووعيها بالتحديات المحيطة. فعندما تنخرط الحركات الجذرية في العمل السياسي المؤسسي، فإنها تواجه تحديات كبرى. أولًا: التفاهمات التي تعقدها مع القوى السياسية الأخرى قد تتطلب منها تقديم تنازلات تعارض مبادئها الأساسية. ثانيًا: هذه الحركات تكون مطالبة بإثبات جدواها في إدارة الدولة وحل مشكلات المواطنين، وهو ما قد يعقد مسارها إذا كانت خبراتها تتركز في المعارضة أو النضال المسلح وقياداتها تفتقد النفس الثوري في التعاطي مع الوضع الجديد.
فالتفاهمات التي تُعقد غالبًا ما تكون ضرورة براغماتية لضمان البقاء السياسي. لكنها قد تُفقد الحركات الجذرية جزءًا من قاعدتها الشعبية إذا رآها أنصارها خيانة للقيم أو تراجعًا عن المبادئ. من جهة أخرى، إذا نجحت الحركات في المزج بين الراديكالية والإصلاحية، فإنها قد تحقق تحولًا نوعيًا في النظام السياسي من دون إحداث فوضى.
تظل صوابية التحول من الجذرية إلى الإصلاحية مسألة نسبية تعتمد على النتائج الملموسة. إذا استطاعت الحركات الجذرية تحقيق أهدافها الأساسية أو جزءًا منها ضمن إطار النظام القائم، فقد يُنظر إلى هذا التحول كخطوة إيجابية. أما إذا انتهى الأمر بانصهارها في النظام وفقدانها لهويتها الجذرية، فسيُعد ذلك إخفاقًا استراتيجيًا.
ختاما، التحولات السياسية غالبًا ما تعيد تشكيل مشاريع الحركات. فبالنسبة للحركات الجذرية، التحول نحو الإصلاحية قد يؤدي إلى توسيع دائرة المشاركة السياسية وكسب شرعية داخلية وخارجية. لكنه قد يهدد بتفككها إذا لم يتم بشكل متوازن يضمن الحفاظ على جذورها الفكرية، فالعلاقة بين التوجه الجذري والإصلاحي في العمل السياسي ليست علاقة تناقض مطلق، بل يمكن أن تكون علاقة تكاملية. فالجذرية تضفي زخمًا للتغيير، بينما توفر الإصلاحية أرضية للتنفيذ الواقعي، ونجاح الحركات السياسية يعتمد على قدرتها على التوفيق بين المبادئ والممارسة، وبين المثالية والبراغماتية، وعلى الدور الحاسم للقيادات والرموز في ضمان هذا التوازن من دون السقوط في مستنقع المصالح الشخصية.

وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات

اترك تعليقاً